هذه المرة لن أكتب قصة من خيالى ولكنها قصة واقعية سردها الدكتور نبيل فاروق فى أحد كتبه، وقد حكاها له أحد أصدقائه...
(مشكلتى هى أن لى ولدا نصف ألمانى،يبلغ من العمر ثمانية عشر عاما،لم يزر مصر سوى مرة واحدة قبل هذه المرة،وكان -آنذاك- فى الثالثة عشرة من عمره،وكنت قد استخرجت له جواز سفر مصرى من سفارتنا فى ألمانيا وقضى هنا أجازة ممتعة،عاد بعدها الى ألمانيا سعيدا راضيا،والمشكلة نشأت فى زيارته هذه المرة،بعد خمسة أعوام من زيارته الأولى ،فلقد أراد ابنى طارق الذى يعجز تماما عن التحدث بالعربية أن يزور مصر مع صديق له،فحضر الى هنا بجواز سفره المصرى على الرغم من أنه يملك جوازا ألمانيا،وحضر معه زميله الألمانى بجواز سفر ألمانى بالطبع.
وأنهى صديقه الألمانى اجراءاته فى دقائق معدودة،وبقى طارق ساعة كاملة ورجال الأمن يرمقونه بنظرات الشك ويستجوبونه على نحو عنيف،وقد استنكروا تماما جهله باللغة العربية وهو يحمل جواز سفر مصرى واسم عربى تماما،المهم أنهم فى النهاية سمحوا له بالدخول بعد أن حذروه من أن تاريخ جواز سفره قد انتهى،وأنه من الضرورى أن يحصل على جواز سفر جديد حتى يمكنه العودة الى ألمانيا،حيث أنه من المحتم أن يسافر بجواز سفر مصرى مادام قد دخل البلاد بواسطة جواز سفر مصرى،وأخبرنى بالأمر مع ضرورة عودته الى ألمانيا خلال أسبوع واحد حيث يبدأ فصله الدراسى الجديد.
ذهبت لاستخراج جواز سفر جديد لطارق فأخبرونى أن الاوراق المطلوبة تتضمن تحديد موقفه من التجنيد الاجبارى،وأرسلونى لقسم الشرطة فأخبرنى الموظف المختص أنه لن يمكننا تحديد موقفه من التجنيد لأنه لم يسجل ضمن مواليد الناحية ولم يحن دوره للخضوع للكشف الطبى فى منطقة التجنيد بعد،ولم تستخرج له بطاقة طلب التجنيد البيضاء،فلجأت الى أحد معارفى من أصدقاء وزير الدفاع وحصلنا على أمر باستثناء طارق من موعد الكشف الطبى ،واستخرجنا له بطاقة بيضاء استثنائيا،ولكنه أخبرنى أنه مادام وحيد والديه فسنحتاج الى استمارة خاصة تثبت ذلك على أن يقوم بتوقيعها شيخ الحارة،وعجزت تماما عن ترجمة منصب شيخ الحارة لابنى فلا يوجد شبيه لهذه المهنة العجيبة فى العالم كله.
بحثنا عن شيخ الحارة هذا حتى عثرنا عليه فى صعوبة،وأخبرنا الرجل أننا نحتاج الى ما يسمى بكشف العائلة وهو وثيقة تثبت أن طارق وحيد والديه،وأن هذا يمنحه الحق فى الاعفاء من التجنيد الاجبارى مؤقتا،ولكن واجهتنا عقبة رهيبة،لابد أن تتطابق بيانات الاستمارة مع البيانات المدونة بالسجل المدنى،وهذا يتطلب أن تكون لنا بيانات أسرية بالسجل المدنى على الرغم من أننا نقيم طيلة عمرنا فى ألمانيا،وكان من المحتم أن استخرج أنا بطاقة عائلية لتكون لنا بيانات أسرية فى السجل المدنى يمكن مطابقتها بما سيدون باستمارة كشف العائلة،وذهبنا الى شيخ الحارة مرة أخرى فأعد لنا استمارة كشف العائلة،وأسرعنا بها الى منطقة التجنيد ليتم الكشف الطبى،وحصلنا على شهادة الاعفاء المؤقت من التجنيد،وأسرعنا نستخرج جواز سفر لطارق،ووجدنا له مكانا على طائرة الليلة لحسن الحظ حيث سيبدأ فصله الدراسى صباح الغد،ولكن القصة لم تنته بعد.
أخبرنى أحدهم صباح اليوم فقط أنه من الضرورى أن نحصل على اذن من مكتب التنظيم والادارة للسماح لطارق بالسفر حتى لو كان يحمل شهادة اعفاء مؤقت من التجنيد،وواجتهنا كالمعتاد نظرات الشك والريبة ولكنهم منحونا اذن السفر،وقبل أن نتسلمه فى لهفة أصر الجندى المسئول على أن يوقع طارق بالاستلام باللغة العربية،وحاولت أقنعه أن هذا مستحيل لأن طارق يجهل العربية تماما الا أنه أصر بكل صلابة وصرامة،وكتبت لطارق اسمه الكامل بالعربية وطلبت منه أن يرسمه كما هو،وفعل وهو يكاد يبكى غيظا لذلك التعقيد الشديد فى الاجراءات والخطوات،وحمل تصريح السفر وبدا شديد العصبية يتعجل موعد السفر حتى وصلنا الى المطار....
استوقفه رجال الامن طويلا وراحوا يتفحصون جواز سفره عشرات المرات ويستجوبونه فى عنف وحجتهم هذه المرة أنه من المستحيل أن تتخذ كل هذه الاجراءات فى أسبوع واحد،وأن نجاحنا فى هذا العمل يجعل الامر مثيرا للشك،ولك أن تتصور دهشة طارق أمام هذا المنطق،وهو الذى يعلم أن استخراج جواز سفر فى ألمانيا لا يستغرق أكثر من بضع ساعات مهما بلغت مشكلة استخراجه.
وأكثر ما يؤلمنى فى هذا عبارة طارق الأخيرة قبل أن يستقل الطائرة،فلقد أخبرنى أنه لن يطأ أرض مصر بقدميه ما بقى من العمر.)
أترك التعليق لكم على هذا التعذيب للمواطنين أو حتى الأجانب، فمن المؤكد أنه عندما سيرجع ألمانيا سيحكى ما حدث ويعرف العالم كله الى أى مدى نحن معقدون وبيروقراطيون.......