توبةُ مُزَوِّرٍ في الأيامِ الفاضلة
راجعتُ نفسي في هذه الأيام المباركة ، من شهر الله الحرام ذي الحجة ، و سمعتُ أنّ فيها مضاعفةَ الثواب للعمل الصالح ، و فيها نفحات الحج ، حيث أرسلَتْ كلُّ أسرةٍ أو كلُّ بيتٍ تقريباً مندوبا لهم وافداً إلي الرحاب المقدسة .. ، راجعتُ نفسي .. ماذا كسبتُ و ماذا خسرت .. ، ماذا كسبتُ حين شاركتُ في هذه الجريمة : شهادة الزور ، التي قُرِنت في القرآن الكريم بعبادة الأوثان ، و قُرِنت في السنة النبوية بالشرك و عقوق الوالدين باعتبارها من أكبر الكبائر ، إنني لم أرتكب فقط إثم شهادة الزور بمفردي ، بل إنني زوَّرتُ شهادة آلافٍ من الناخبين !! ، إنني الآن مشاركٌ في ما وصل إليه حال الناس من إحباطٍ و يأس ، تغلَّبَ عندهم هاجسُ التزوير علي آمال التغيير ، فهم علي شبه يقينٍ من تزوير انتخابات مجلس الشعب القادمة قياسا علي سوابقَ كثيرة ، و تعديلات دستورية مشوهة .
ماذا كسبتُ و ماذا خسرت ؟ .. ، لقد كسبتُ رضا مسئولي و خسرت رضا ربي !! ، ربما كسبتُ ترقيةً ، و ربما زيادةً ، و ربما بعثةً ، و ربما و يا للأسف رحلة عمرة مجانية ! .. ذكَّرتني بمن يحج من مالٍ حرام ، و خسرتُ راحة البال و طمأنينة القلب و بركةَ المال الحلال ، كسبتُ ضمان جهتي " العليا" لي بمزيدٍ من المكاسب ، و خسرت الاطمئنان لحماية الله لي في مستقبل أيامي ، خاصةً بعد أن تزولَ عنّي شارةُ هذه الجهات العليا ، كسبتُ احتراماً مصطنعاً و افتخاراً كاذباً من بعض زملائنا في هذه الجريمة ، و خسرنا حبَّ الناس الطيبين و احترامهم ، كسبتُ خبرةً كبيرةً في فنون التزوير بمراحله المختلفة ، من تعقب الممنوع نجاحهم بتقطيع اللافتات ، و فض المسيرات ، و الشوشرة علي الجولات ، و القبض علي بعض أنصارهم و التلفيق السريع لبعض الاتهامات ، و الإيعاز بالتنكيل بهم لبعض الأقسام و النيابات ، و إحاطة اللجان بالحشود و العضلات ، و منع الداخلين من غير حاملي كلمة السر المتفق عليها ، و سرعة تسويد البطاقات بعد إخراج المندوبين و المندوبات ، و من قبل هذا تحضير الصناديق الخلفية للاحتياط ، و من بعد هذا إعلان نتيجة مغايرة لكل ما تم من إجراءات ، مع تحييد المناصب الشرفية من بعض القضاة و رؤساء اللجان في كل الجهات .. و لكن خسرتُ خبراتٍ مفروضةً أو مفترضةً في تسخير ما مكننا الله فيه لإسعاد الناس و قضاء حوائجهم و إشعارهم بالأمن و العدل !! .
كسبنا نجاح من زوَّرنا لهم ، فمرَّروا القرارات التي هي غالبا عكس ما يريده الناس ، و خسرنا منافع كثيرة تعود علي الناس جميعا إذا اتُّخِذَ قرارٌ صالحٌ يخدم وطننا الغالي و لا يخدم أعداءنا المتربصين بنا .. . عذراً يا والدي رحمك الله ، عذراً يا أمّي .. كم بذلتما و تعبتما لتَريَا ابنكما عند حسن ظنكما في الوفاء بالجميل لهذا الشعب الطيب .
و لكنني ربما كنتُ معذوراً بعض الشيء ، حيث أنّ أمرَ هذه الجريمة مرَّ بندريجٍ بطيء ، حتي لا يشعر المزوِّرُ أنه يفعل شيئا مؤثَّما ، فهناك ثلاث مراحل يمر بها المأمور بالتزوير ، حتي ينسي أنه مجرمٌ مزور : التبرير ، ثم الاستسهال و تخدير الضمير ، ثم الاستحسان و الاستمراء ، أما التبرير فقد أقنعوني أنني لا أزَوِّر .. !! و إنما أطيع أوامر عليا بأن ينجحَ مرشّح الحزب ، فهذه طاعةٌ للأمر و ليست تزويرا ، كما أنني أدافع عن الوطن .. ضد القلة المعارضة من أعداء الوطن .. التي لا تريد مصلحة الوطن !!! ، و أما الاستسهال فقد صارت أعمال التزوير مشروعا قومياً و روتينا محفوظا و واجباتٍ تعوَّدنا عليها في كل انتخابات ، نقوم بها بلا تأنيبٍ للضمير، فهي أمر واقع تُسَخَّرُ لنا فيها جميع الإمكانيات ،
و أما الاستمراء و الاستحسان ، فقد صرنا نفعل هذا بمزيدٍ من الفخر أمام الأماكن الأخري أنه لم ينجح عندنا معارضٌ ، و أنه في سبيل ذلك فعلنا كذا و كذا .. ، فننال بذلك الشرف الكاذب و المكافآت .
إنني أيقنت أن جريمة التزوير هي أم المفاسد كلها لأنها توصل إلي مراكز القرار من يعاند إرادة الناس ، و يشرع لعكس ما يريدون غالبا ، و قد صار شبح التزوير يخيم علي توقعات كثير من الكتاب الذين يتحدثون الآن عن نية النظام في تقليص مقاعد الإخوان ، و إعطاء مقاعد محسوبة للوفد و بعض الأحزاب و الاحتفاظ بأغلبية كاسحة للحزب الوطني .!! ، و كأن النتائج معدةٌ سلفا ، دون أي اعتبار لدور الناخبين في هذه الانتخابات .
إنني أعلن توبتي في هذه الأيام الفاضلة ، و بإذن الله لن أشارك بعد اليوم في أعمال التزوير ، بل و أقول لكل المشتركين في إدارة الانتخابات كبيراً كان أو صغيرا ، آمراً كان أو مأمورا : تذكر أنك تقوم بأعظم مفسدةٍ بشعاراتٍ وطنيةٍ مزيفة ، فلا تخسر دينك من أجل دنيا غيرك ، و لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق ، و أعمال التزوير من أكبر الظلم الذي له سوء العاقبة في الدنيا و الآخرة .
أحمـــد بلال
ahmadbelals@yahoo.com نوفمبر 2010 ذو الحجة 1431