من نكد هذه الأيام التي ضاعت فيها الموازين السليمة والمعايير الصحيحة، أن كل من يحمل فكرا إسلاميا معتدلا يصطلي بنارين لا ترحمانه ولا تتركانه يرتاح لحظة واحدة: نار المغالين من جهة، ونار المفرطين من الجهة الأخرى.
فهو في أعين المغالين متساهل أو مفرط لا يفهم الدين جيدا، بل لا يطبقه كما يجب، لذلك فهو من الذين يضلون ويُضلون غيرهم عن سواء السبيل.
وهو عند المفرطين موصوم بالتشدد والتعنت والتزمت، متهم بالتطرف لمجرد أنه يصلي ويرتاد المساجد، ورغم أنه قد يكون أكثر انفتاحا منهم في امور كثيرة، فأعينهم تراه دائما من خلال نفس المنظار الأسود المظلم.
وهكذا فلا هؤلاء راضون ولا أولئك قانعون، وليست المشكلة في الرضى والقناعة، فهذه مسائل تعود الى كل فرد، ولكن في سهام التشكيك والأقوال الجارحة والمشككة في شخصيته وسلوكه وحتى نواياه.
فهو وإن كان معتدلا بطبيعته دون تكلف، متساهلا مع الناس، لاعتقاده أن الخلق السهل والمعاملة الجيدة هي السبيع الأنجع لإظهار وجه المسلم الحقيقي، يبقى متهما: فالمغالون يتهمونه في صحة تصرفاته، وفي عدم استنادها الى الشرع، بينما يتهمه الفريق الآخر بالوصولية واستغلال الدين للوصول الى الجماهير وغير ذلك من الكلام الواهي.
وهكذا يجد نفسه بين قريب لا يفهمه وغريب لا يرحمه.....
المسلم المعتدل يرى التعامل مع غيره من الناس، المسلم وغير المسلم، تمر بالكلمة الطيبة والمعاملة الصادقة، ويحب الانفتاح على الناس حتى المخالفين له في الرأي..
المغالون يرون في المسألة تساهلا لا يجوز، وتفريطا في السنن، وتجاهلا لآثار وردت لمناسبات معينة مثل التضييق على المخالفين في الطريق وغيرها.
المفرطون يعتبرون المسألة مجرد وصولية ومكرا من نوع آخر، وحيلة من نوع جديد من متطرف ذكي يحسن إخفاء أفكاره المتشددة..
المسلم المعتدل يرى أن الخطوات الايجابية والمدروسة هي السبيل الأفضل للرد على الاهانات التي توجه للإسلام والمسلمين من قبل الجهلة والمغرضين...
المغالون يرون ذلك جبنا وخورا، ولا يرضيهم إلا أن يتفق أو أن يشترك معهم في الكلام العنيف والتهديد والوعيد والتصرفات الرعناء التي جلبت على أمتنا الويل وجعلتها تثور وتهيج دون عقل عند كل استفزاز مهما قل شأنه.
المفرطون يعتبرون الأمر مجرد تكتيك أو تنسيق لا يلبث بعدها أن يظهر ما يخفي من تطرف وعنف.
المسلم المعتدل يدعو الى الالتزام بالقوانين ومحاولة تحسين ظروف الأمة من خلال الطرق السلمية والشرعية..
المغالون يفسرون ذلك رضوخا للأنظمة الوضعية، وتعطيلا للجهاد الذي فسروه على أنه مقاومة كل نظام بغض النظر عن النتائج والكوارث التي تنتج عن قراراتهم المتفردة والتي يأخذونها بالنيابة عن الأمة دون توكيل من أحد.
المسلم المعتدل يحب التروي في الأمور وعدم إطلاق الأحكام دون تحقق، ويرفض أن يجعل نفسه حكما على ضمائر الناس وسرائرهم.
المغالون يرفضون هذا المنطق ويعتبرونه تهاونا في الدين، ولا يترددون في تكفير كل من يرى رأيهم، حتى إذا كان الخلاف فرعيا، ومنهم من لا يتردد في هدر دمه.
وهكذا رأينا ونرى من لم يكد يبلغ سن الرشد، يتطاول على علماء بلغوا قمة العلم قبل أن يجتمع أبواه، ويتجرأ على تكفيرهم دون فهم ودون علم، سوى آثار يوردها في غير محلها ويفسرها على غير وجهها.
وفي المقابل يأبى المفرطون إلا ان يحكموا بالتطرف على كل ملتزم بدينه، ويأبون إلا أن يعمموا أحكامهم وسوء ظنهم، فكل ملتزم لديهم مدان حتى إذا ثبت العكس.
لذلك تراهم يتهمون كل ملتزم بالتطرف، مع أن سيرته قد تكون في غاية الاستقامة والنزاهة والبعد عن التطرف، فكل هذا لا يعني لهم شيئا، لأن ذلك كله لا يعدو عن كونه تمثيلا أو توزيع أدوار..
المسلم المعتدل يحب الفتوى المعتدلة التى تراعى المصالح وتيسر على الناس، دون ان تضيع الدين..
وليس هذا من بدع القول، فالحسن البصري رحمه الله يقول: إنما الفقه الرخصة من الثقة، أما التشدد فيحسنه كل أحد..
المغالون يأبون إلا أخذ بالرأي الأشد وفرضه على الناس، بحجة الأخذ بالأحوط، وحجة "هذه فتوى وهذه تقوى"، مع ان منهج النبي عليه الصلاة والسلام، كان الأخذ بالأيسر، ورغم أن تلك الآراء قد تعسر على الناس معاشهم وحياتهم.
المفرطون يريدون أن تكون الفتوى كلأ مباحا لكل عالم وجاهل، وأن تطلق الأمور لكل أحد ليقول في الدين برأيه دون حسيب أو رقيب، وصولا الى ترك كل عزيمة والتملص من كل التزام والتهرب من كل واجب.
خلال الأعوام الخمسين الماضية كانت مسألة إطلاق اللحية مثار جدل كبير بين التيارات الإسلامية وغيرها حول أسباب إطلاقها، وبين الإسلاميين أنفسهم، من حيث المواصفات والشكل وغير ذلك.
ورغم أن لدينا من المشكلات والأزمات ما تنوء به الجبال، فلا تزال المنازعات والخصومات بشأن هذه المسألة قائمة.
فالمغالون لا يرضون إلا بإطلاقها وعدم الأخذ منها بأي شكل من الأشكال مهما طالت، وقد يصل الحد بهم الى تكفير من يحلقها أو التشكيك في دينه...
والمفرطون يرون فيها رمز التشدد والتخلف، رغم أنها قد تكون خفيفة مهذبة، ويضيقون بها رغم أن أصنافا من الناس تطلق لحاها لأسباب مختلفة، ولا تراعي فيها ذوقا ولا شعورا، ولكن هذا كله لا يعني لهم شيئا ولا يحظى منهم بأي تعليق.
المضايقات لا تكاد تترك جانبا من الحياة إلا طالته، خاصة أن كلا الطرفين فَقَد المنطق والروِّية، وأصبح لا يكاد يطيق ان يرى من يخالفه في الرأي والمنهج، حتى صار المعتدل قابضا على الجمر يردد في مرارة: ما حيلتي في هذه او ذاكا ؟؟؟
والناظر في المسألة بتعمق، يلحظ دون كبير عناء أن الاعتدال يزعج ويحرج الطرفين، فالمغالون لا يتصورون وجود مسلم ملتزم بالدين دون الالتزام بتشددهم العجيب، مما يعني أنه بهذا ينسف فكرتهم التي تحتكر الالتزام بالدين، وتحصره في الصورة التي يرونها،أما المفرطون فلا يتصورون من ناحيتهم وجود إنسان منفتح يحب العلم ويؤمن بالحوار، ثم يجمع مع ذلك التزامه بالدين وتعاليمه، لذلك فوجود مسلم معتدل ينسف فكرتهم أيضا.
وهكذا التقت الأضداد وتعاونت دون تخطيط على هذه الحرب الشعواء ....
منقول عن موقع أخبار العالم الكاتب شادي الأيوبى