في بعض الأقطار الإسلامية قام مجموعة من الفتيان المتحمسين لتحطيم المحلات التي تبيع الدمى (العرائس واللعب) للأطفال؛ لأنها أصنام، وصور مجسمة تعتبر من أكبر الكبائر!
ولما قيل لهم: إن العلماء من قديم أجازوا لعب الأطفال، لما فيها من امتهان الصورة، وانتفاء تعظيمها..إلخ، قالوا: كان هذا في صور غير هذه الصور المتقنة التي تفتح عينيها وتغلقها.
قيل لهم: ولكن الطفل يرمي بها يمينًا وشمالاً، ويخلع ذراعها ورجلها، ولا يمنحها أي قدر من التعظيم أو التقديس . لم يجدوا جوابا!
وفي بلاد إسلامية أخرى قام بعض الشباب يحاول أن يغلق المطاعم ومحلات العصير والقهوة ونحوها بالقوة، حين أعلنت بعض الأقطار الإسلامية بدء الصيام، ورؤية الهلال، فرأى هؤلاء المتحمسون أن رمضان قد ثبت، فلا يجوز المجاهرة بالإفطار.
ومثل ذلك ما قام به بعض الشباب المسلم الغيور في مصر في أحد أعياد الفطر حيث ترجح لدى الجهات الشرعية في مصر عدم ثبوت شوال لاعتبارات شتى، منها قطع الفلك أن من المستحيل رؤية الهلال تلك الليلة. ولم ير الهلال في مصر، ولكن بعض الأقطار أعلنت رؤية الهلال، فأصر هؤلاء على أن يفطروا ويقيموا شعائر العيد وحدهم، ضد الدولة، وأغلبية الأمة، وحدث من جراء ذلك صدام مع أجهزة الأمن لا مبرر له.
ورأيي أن هؤلاء وأولئك أخطأوا من جملة أوجه:
الأول: أن الفقهاء مختلفون في طريق إثبات الهلال، فمنهم من اكتفى بشاهد واحد، ومنهم من طلب شاهدين، ومنهم من اشترط في حالة الصحو شهادة الجمع الغفير، ولكل أدلته ووجهته.
فلا يجوز إجبار الناس على مذهب واحد، من غير ذي سلطة.
الثاني: أنهم اختلفوا كذلك في مسألة اعتبار اختلاف المطالع أو عدم اعتبارها، وفي عدد من المذاهب أن لكل بلد رؤيته، ولا يلزم بلد برؤية بلد آخر، وهو مذهب ابن عباس ومن وافقه، كما هو معروف من حديث كريب في صحيح مسلم.
الثالث: أن حكم الإمام أو القاضي في الأمور الخلافية يرفع الخلاف، ويلزم الأمة اتباعه.
ولهذا إذا أخذت السلطات الشرعية بقول إمام أو اجتهاد مذهب في هذه القضايا فالواجب اتباعها، وعدم تفريق الصف.
وقد قلت في بعض ما أفتيت به: إذا لم نصل إلى وحدة المسلمين جميعًا في الصيام والفطر، فعلى الأقل يجب أن يتحد أهل البلد الواحد في شعائرهم، فلا يقبل بحال أن ينقسم أهل البلد الواحد إلى فريقين: فريق صائم وفريق مفطر.
ولكن هذا الخطأ في الاجتهاد من شباب مخلصين لا يقاوم بالرصاص، بل بالإقناع
الشرط الثاني: ظهور المنكر
أي أن يكون المنكر ظاهرًا مرئيًا، فأما ما استخفى به صاحبه عن أعين الناس وأغلق عليه بابه، فلا يجوز لأحد التجسس عليه، بوضع أجهزة التصنت عليه، أو كاميرات التصوير الخفية، أو اقتحام داره عليه لضبطه متلبسًا بالمنكر.
وهذا ما يدل عليه لفظ الحديث: "من "رأى" منكم منكرًا فليغيره..." فقد ناط التغيير برؤية المنكر ومشاهدته، ولم ينطه بالسماع عن المنكر من غيره.
وهذا لأن الإسلام يدع عقوبة من استتر بفعل المنكر ولم يتبجح به، إلى اللّه تعالى يحاسبه في الآخرة، ولم يجعل لأحد عليه سبيلا في الدنيا، حتى يبدي صفحته ويكشف ستره.
حتى إن العقاب الإلهي ليخفف كثيرًا على من استتر بستر اللّه، ولم يظهر المعصية كما في الحديث الصحيح: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين).
لهذا لم يكن لأحد سلطان على المنكرات الخفية، وفي مقدمتها معاصي القلوب من الرياء والنفاق والكبر والحسد والشح والغرور ونحوها..وإن اعتبرها الدين من أكبر الكبائر، ما لم تتجسد في عمل ظاهر، وذلك لأننا أمرنا أن نحكم بالظواهر، ونكل إلى اللّه تعالى السرائر.
ومن الوقائع الطريفة التي لها دلالتها في هذا المقام ما وقع لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه، وهو ما حكاه الغزالي في كتاب "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" من "الإحياء": أن عمر تسلق دار رجل، فرآه على حالة مكروهة فأنكر عليه، فقال: يا أمير المؤمنين، إن كنت أنا قد عصيت اللّه من وجه واحد، فأنت قد عصيته من ثلاثة أوجه، فقال: وما هي؟ قال: قد قال اللّه تعالى: (ولا تجسسوا) (الحجرات: 12)، وقد تجسست، وقال تعالى : (وأتوا البيوت من أبوابها) (البقرة: 189)، وقد تسـورت من السطح، وقال تعالى : (لا تدخلوا بيوتًا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها) (النور: 27) وما سلمت،.فتركه عمر، وشرط عليه التوبة. (الإحياء 7 / 1218 ط.الشعب، القاهرة).
والشرط الثالث لتغيير المنكر بالقوة: القدرة الفعلية على التغيير:
أي أن يكون مريد التغيير قادرًا بالفعل ـ بنفسه أو بمن معه من أعوان ـ على التغيير بالقوة. بمعنى أن يكون لديه قوة مادية أو معنوية تمكنه من إزالة المنكر بسهولة.
وهذا الشرط مأخوذ من حديث أبي سعيد أيضا؛ لأنه قال: "فمن لم يستطع فبلسانه" أي: فمن لم يستطع التغيير باليد، فليدع ذلك لأهل القدرة، وليكتف هو بالتغيير باللسان والبيان، إن كان في استطاعته.
وهذا في الغالب إنما يكون لكل ذي سلطان في دائرة سلطانه، كالزوج مع زوجته، والأب مع أبنائه وبناته، الذين يعولهم ويلي عليهم، وصاحب المؤسسة في داخل مؤسسته، والأمير المطاع في حدود إمارته أو سلطته، وحدود استطاعته. (أعني أن من الأمراء من يعجز عن بعض الأشياء في إمارته نفسها، وقد رأينا عمر بن عبد العزيز يعجز عن رد الأمر شورى بين المسلمين، بعيدًا عن نظام الوراثة) .. وهكذا.
وإنما قلنا: القوة المادية أو المعنوية؛ لأن سلطة الزوج على زوجته أو الأب على أولاده، ليست بما يملك من قوة مادية، بل بما له من احترام وهيبة تجعل كلمته نافذة، وأمره مطاعًا.
إذا كان المنكر من جانب الحكومة:
هنا تظهر مشكلة ما إذا كان المنكر من جانب الحكومة أو الدولة، التي تملك مقاليد القوة المادية والعسكرية، ماذا للأفراد والفئات أو عليهم أن يعملوا لتغيير المنكر الذي ترتكبه السلطة أو تحميه؟؟
والجواب: أن عليهم أن يملكوا القوة التي تستطيع التغيير، وهي في عصرنا إحدى ثلاث:
الأولى : القوات المسلحة التي يستند إليها كثير من الدول في عصرنا ـ ولا سيما في العالم الثالث ـ في إقامة حكمها، وتنفيذ سياستها، وإسكات خصومها بالحديد والنار، فالعمدة لدى هذه الحكومات ليس قوة المنطق، بل منطق القوة، فمن كان معه هذه القوات استطاع أن يضرب بها كل تحرك شعبي يريد التغيير، كما رأينا ذلك في بلاد شتى آخرها في الصين، وإخماد ثورة الطلبة المطالبين بالحرية.
الثانية : المجلس النيابي الذي يملك السلطة التشريعية، وإصدار القوانين وتغييرها، وفقًا لقرار الأغلبية، المعمول به في النظام الديمقراطي، فمن ملك هذه الأغلبية في ظل نظام ديمقراطي حقيقي غير مزيف، أمكنه تغيير كل ما يرى من منكرات بوساطة التشريع الملزم، الذي لا يستطيع وزير، ولا رئيس حكومة، ولا رئيس دولة أن يقول أمامه : لا.
الثالثة : قوة الجماهير الشعبية العارمة التي تشبه الإجماع، والتي إذا تحركت لا يستطيع أحد أن يواجهها، أو يصد مسيرتها؛ لأنها كموج البحر الهادر أو السيل العرم، لا يقف أمامه شيء، حتى القوات المسلحة نفسها؛ لأنها في النهاية جزء منها، وهذه الجماهير ليسوا إلا أهليهم وآباءهم وأبناءهم وإخوانهم.
فمن لم يملك إحدى هذه القوى الثلاث، فما عليه إلا أن يصبر، ويصابر ويرابط، حتى يملكها، وعليه أن يغير باللسان، والقلم، والدعوة والتوعية والتوجيه، حتى يوجد رأيًا عامًا قويًا يطالب بتغيير المنكر، وأن يعمل على تربية جيل طليعي مؤمن يتحمل تبعة التغيير. وهذا ما يشير إليه حديث أبي ثعلبة الخشني حين سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن قوله تعالى: (يأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يـضركم من ضل إذا اهـتديتم) (المائدة: 105)، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم- : "بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شُـحًّا مطاعًا، وهَوًى متبعًا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك ودع العوام، فإن من ورائكم أيامًا، الصـابر فيهن مثل القابض على الجمـر، للعامـل فيهن مثل أجر خمسـين رجلاً يعملون كعملكم" (رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب صحيح، وكذا رواه أبو داود من طريق ابن المبارك. ورواه ابن ماجة، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن عتبة بن أبي حكيم).وفي بعض الروايات (ورأيت أمرًا لا يدان ـ أي لا طاقة ـ لك به).
الشرط الرابع :عدم خشية منكر أكبر:
أي ألا يخشى من أن يترتب على إزالة المنكر بالقوة منكر أكبر منه، كأن يكون سببًا لفتنة تسفك فيها دماء الأبرياء، وتنتهك الحرمات، وتنتهب الأموال، وتكون العاقبة أن يزداد المنكر تمكنا، ويزداد المتجبرون تجبرًا وفسادًا في الأرض.
ولهذا قرر العلماء مشروعية السكوت على المنكر مخافة ما هو أنكر منه وأعظم، ارتكابًا لأخف الضررين، واحتمالا لأهون الشرين.
وفي هذا جاء الحديث الصحيح، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لعائشة: "لولا أن قومك حديثو عهد بشرك، لبنيت الكعبة على قواعد إبراهيم".
وفي القرآن الكريم ما يؤيد ذلك، في قصة موسى عليه السلام مع بني إسرائيل، حين ذهب إلى موعده مع ربه، الذي بلغ أربعين ليلة، وفي هذه الغيبة فتنهم السامري بعجله الذهبي، حتى عبده القوم، ونصحهم أخوه هارون، فلم ينتصحوا وقالوا ( لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى). (طه : 91).
وبعد رجوع موسى ورؤيته لهذا المنكر البشع ـ عبادة العجل ـ اشتد على أخيه في الإنكار، وأخذ بلحيته يجره إليه من شدة الغضب، (قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضَـلُّوا. ألا تَتَّـبِعَن أفَعَصيْتَ أمري. قال يا بن أم لا تأخذ بِلِحْيَتي ولا بِرَأْسِي إني خَشِــيتُ أن تقول فَرَّقْتَ بين بني إسرائيل ولم تَرْقُبْ قولي). (طه : 92 - 94).
ومعنى هذا: أن هارون قدم الحفاظ على وحدة الجماعة في غيبة أخيه الأكبر، حتى يحضر، ويتفاهما معًا كيف يواجهان الموقف الخطير بما يتطلبه من حزم وحكمة.
هذه هي الشروط الأربعة التي يجب أن تتوافر لمن يريد تغيير المنكر بيده، وبتعبير آخر: بالقوة المادية المرغمة.
تغيير المنكرات الجزئية ليس علاجًا:
أود أن أنبه هنا على قضية في غاية الأهمية لمن يشتغلون بإصلاح حال المسلمين، وهي أن التخريب الذي أصاب مجتمعاتنا، وخلال عصور التخلف، وخلال عهود الاستعمار الغربي، وخلال عهود الطغيان والحكم العلماني، تخريب عميق ممتد، لا يكفي لإزالته تغيير منكرات جزئية، كحفلة غناء، أو تبرج امرأة في الطريق، أو بيع أشرطة "كاسيت" أو "فيديو" تتضمن ما لا يليق أو ما لا يجوز.
إن الأمر أكبر من ذلك وأعظم، لابد من تغيير أشمل وأوسع وأعمق.
تغيير يشمل الأفكار والمفاهيم، ويشمل القيم والموازين، ويشمل الأخلاق والأعمال، ويشمل الآداب والتقاليد، ويشمل الأنظمة والتشريعات.
وقبل ذلك لابد أن يتغير الناس من داخلهم بالتوجيه الدائم، والتربية المستمرة، والأسوة الحسنة، فإذا غير الناس ما بأنفسهم كانوا أهلا لأن يغير اللّه ما بهم وفق السنة الثابتة : (إن اللّه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم). (الرعد : 11).
ضرورة الرفق في تغيير المنكــر:
وقضية أخرى لا ينبغي أن ننساها هنا، وهي ضرورة الرفق في معالجة المنكر، ودعوة أهله إلى المعروف، فقد أوصانا الرسول - صلى الله عليه وسلم- بالرفق، وبين لنا أن اللّه يحبه في الأمر كله، وأنه ما دخل في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه.
ومن القصص التي تروى هنا ما ذكره الغزالي في "الإحياء" أن رجلا دخل على المأمون ليأمره وينهاه، فأغلظ عليه القول، وقال له: يا ظالم، يا فاجر..إلخ. وكان المأمون على فقه وحلم، فلم يعالجه بالعقاب، كما يفعل كثيرون من الأمراء بل قال له: يا هذا، ارفق، فإن اللّه بعث من هو خير منك إلى من هو شر مني..وأمره بالرفق، بعث موسى وهارون، وهما خير منك، إلى فرعون وهو شر مني، فقال لهما:
(اذهبا إلى فرعون إنه طغى. فقولا له قولا لَيِّنًا لعله يَتَذَكَّر أو يَخْشَى). (طه : 43، 44).
وهذا التعليل بحرف الترجي (لعله يتذكر أو يخشى) برغم ما ذكره اللّه تعالى من طغيان فرعون (إنه طغى) دليل على أن الداعية لا ينبغي أن يفقد الأمل فيمن يدعوه مهما يكن كفره وظلمه، ما دام مستخدمًا طريق اللين والرفق، لا طريق الخرق والعنف.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
والله أعلم